فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [78].
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} عامٌّ في جهاد الكفار والظلمة والنفس. وحق منصوب على المصدرية. والأصل جهاداً فيه حقاً فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة. وعن الرضيّ: إن كلّ وجدّ وحقّ إذا وقعت تابعة لاسم جنس، مضافة لمثل متبوعها لفظاً ومعنى، نحو: أنت عالم كلّ عالم أو جدّ عالم أو حق عالم أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرّق في الكل. وأن ما سواه باطل أو هزل. وقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي: اختاركم لدينه ولنصرته. وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه. لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته. وهي بما ذكر. ولأن من قرّ به العظيمُ، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه، بترك ما لا يرضاه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي: في جميع أمور الدين من ضيق، بتكليف ما يشق القيام به. كما كان على من قبلنا، فالتعريف في الدين للاستغراق. قال في الإكليل: هذا أصل القاعدة المشقة تجلب التيسير: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} منصوب على المصدرية، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج. بعد حذف مضاف أي: وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم. أو على الإغراء بتقدير: اتبعوا أو الزموا، أو الاختصاص بتقدير: أعني ونحوه. أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله. فيكون مجروراً بالفتح، أفاده الشهاب. قال القاضي، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية. أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته. فغلبوا على غيرهم.
وقال القاشاني: معنى أبوّته كونه مقدماً في التوحيد، مفيضاً على كل موحد، فكلهم من أولاده. وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. والجملة مستأنفة. وقيل: إنها كالبدل من قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ولذا لم يعطف: {وَفِي هَذَا} أي: القرآن. أي: فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل: الضمير لإبراهيم عليه السلام.
قال القاضي: وتسميتهم بمسلمين في القرآن، وإن لم يكن منه، كان بسبب تسميته من قبل، في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، أي: لدخول أكثرهم في الذرية. فجعل مسمياً لهم مجازاً {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي: بأنه قد بلغكم رسالات ربكم: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي: بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي: وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وثقوا به، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.

.سورة المؤمنون:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 7):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [1- 7].
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: دخلوا في الفوز الأعظم {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} أي: متذللون مع خوف وسكون للجوارح، لاستيلاء الخشية والهيبة على قلوبهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}. أي: عن الفضول وما لا يعني من الأقوال والأفعال، معرضون في عامة أوقاتهم، لاستغراقهم بالجد.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي: للتجرد عن رذيلة البخل. قيل: السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة؟ وجوابه: إن الذي فرض بالمدينة إنما هو النصب والمقادير الخاصة. وإلا فأصل التفضل بالعفو مشروع في أوائل البعثة، فلا حاجة إلى دعوى إرادة زكاة النفوس من الشرك والعصيان، لعدم التبادر إليه.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لأنه الحق المأذون فيه {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي: الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم.
تنبيهات:
الأول: دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين. وأنه من الملومين. ومن العادين. ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم. فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها، أيسر من بعض ذلك. وقد أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم. وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم، مطلع عليها، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الأمر بغضّه مقدماً على حفظ الفرج. فإن الحوادث مبدؤها من النظر. كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر. ثم تكون نظرة، ثم تكون خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة. ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات. والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة. ويلازم الرباط على ثغورها. فمنها يدخل عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تتبيراً.
الثاني: روي عن الإمام أحمد أنه قال: لا أعلم بعد القتل ذنباً أعظم من الزنى.
واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال: يا رسول الله أي: الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قال قلت: ثم أي:؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت: ثم أي:؟ قال: أن تزاني حليلة جارك». والنبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل. فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندّاً. وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه. وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره. فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنى بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثماً وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه، لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جاراً له، انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى. وذلك من أعظم البوائق. وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه». ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته. فالزنى بمائة امرأة لازوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار. فإن كان أخاً له، أو قريباً من أقاربه، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم. فإن كان الجار غائباً في طاعة الله، كالصلاة وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم، فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً منه، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها.
فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً، كان الإثم أعظم. فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة، تضاعف الإثم.
وعلى هذا، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان.
الثالث: أجمع المسلمون على أن حكم التلوّط مع المملوك كحكمه مع غيره، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد. فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه. وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره. في الإثم والحكم. أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في الجواب الكافي. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (8- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [8- 11].
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي: قائمون عليها بحفظها وإصلاحها. والآية تحتمل العموم في كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا، من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم. ولذا عدت الخيانة في الأمانة من آيات النفاق في الحديث المشهور.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: يحافظون عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وليس هذا تكريراً لما وصفهم به أولاً. فإن الخشوع في الصلاة، غير المحافظة عليها. وتقديم الخشوع اهتماماً به. حتى كأن الصلاة، لا يعتد به بدونه، أو لعموم هذا له. وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة، تعظيم لشأنها.
{أُولَئِكَ} أي: الجامعون لهذه الأوصاف: {هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} أي: الجنة: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: لا يخرجون منها أبداً.
ثم أشار تعالى إلى مبدأ خلقه الإنسان وتقليبه في أطوار شتى، حتى نما كاملاً، وإلى ما خلقه من عالم السماء والأرض، وسخره لمنافعه، ليشكر مولاه ويعبده، كما أمره وهداه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (12- 13):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [12- 13].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} أي: ابتدأنا خلقه: {مِنْ سُلالَةٍ} أي: خلاصة: {مِنْ طِينٍ} أي: تراب خلط بماء فصار نباتاً فأكله إنسان فصار دماً {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي: بأن خلقناه منها، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية: {فِي قَرَارٍ} أي: مستقر، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه: {مَكِينٍ} أي: متمكن لا يمجّ ما فيه.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [14].
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي: بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي: قطعة لحم بقدر ما يمضغ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} أي: بأن صلبناها وجعلناها عموداً للبدن، على هيئات وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} أي: جعلناه محيطاً بها ساتراً لها كاللباس: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي: بتمييز أعضائه وتصويره، وجعله في أحسن تقويم: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي: تعاظم قدرة وحكمة وتصرفاً: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي: المقدرّين. فالخلق بمعنى التقدير كقوله:
وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلقتَ وَبَعْ ** ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي

لا بمعنى الإيجاد. إذ لا خالق غيره، إلا أن يكون على الفرض.

.تفسير الآيات (15- 17):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [15- 17].
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات: {لَمَيِّتُونَ} أي: لصائرون إلى الموت.
قال المهايميّ: والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل، ولذلك سيبعثه كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أي: من قبوركم للحساب والمجازاة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أي: سبع سموات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها.
قال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية: أي: سبعة أفلاك، للسبع سموات، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار. قال: فلذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسيّ ينقسم إلى سبع طرائق، خلاف طريق الأرض الذي يعيّنه قوله تعالى: {فَوْقَكُمْ} فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريباً، إلى منتهى فلك نبتون، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار. كل قسم تجري فيه سماء بما معها. ويسمى هذا الطريق فلكاً {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي: عن ذلك المخلوق، الذي هو السموات، أو جميع المخلوقات. فالتعريف على الأول، عهديّ، وعلى الثاني استغراقيّ. أي: ما كنا مهملين أمر الخلق، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة، وتعلقت به المشيئة.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [18].
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أي: جعلناه قارّاً فيها، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21]، {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} أي: إزالته بالتغوير وبغيره، كما قدرنا على إنزاله. ففي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.
قال الزمخشري: فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، ويقيّدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها، إذا لم تشكر.

.تفسير الآيات (19- 20):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [19- 20].
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا} أي: في الجنات: {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً} بالنصب عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء. أي: ومما أنشئ لكم شجرة: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} وهو جبل بفلسطين، أو بين مصر وأيلة بفتح الهمزة محل معروف يسمى اليوم العقبة وهو على مراحل من مصر. قاله الشهاب والشجرة: شجرة الزيتون، نسبت إلى الطور لأنه مبدؤها. أو لكثرتها فيه: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي: ملتبسة بالدهن المستصبح به: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} أي: وبإدام يغمس فيه الخبز فالصبغ كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام. ويختص بكل إدام مائع. يقال صبغ اللقمة: دهنها وغمسها وكل ما غمس فقد صبغ. كذا في المصباح والتاج.